سورة الأعراف - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين؛ ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل.. أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء؛ لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون.. كل ذلك للابتلاء.. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: {وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}! أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله.. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار..
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها.. يحذرهم الغفلة والغرة، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى، ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها...} لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.. فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها..
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء. فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ الإنسان في هذه الأرض.
وأن الرسالة ذاتها- على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس- وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافاً؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض- كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان!- وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس..
ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون!
إن إرادة الإنسان وحركته- في التصور الإسلامي- عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً. ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل.. والله بكل شيء محيط.. وإرادة الإنسان وحركته- في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل- يتعاملان مع الوجود كله؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً.. فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة؛ مما يبدو إلى جانبه التفسير الاقتصادي للتاريخ، والتفسير البيولوجي للتاريخ، والتفسير الجغرافي للتاريخ... بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة. وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير!.
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون}..
فليس للعبث- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة- كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له- والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} «ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً. ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على معصيته- سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً» (كما جاء في الحديث القدسي).
ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم- كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم. وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد!
لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم. استحياء لقلوبهم بالألم. والألم خير مهذب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق.. {لعلهم يضرعون}..
{ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة}..
فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف. وإذا هو متاع ورخاء، وهينة ونعماء، وكثرة وامتلاء.. وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء..
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، ويحتمل مشقاته الكثيرون. فالشدة تستثير عناصر المقاومة. وقد تذكر صاحبها بالله- إن كان فيه خير- فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظله طمأنينة، وفي رحابه فسحه، وفي فرَجه أملاً، وفي وعده بشرى.. فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون. فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي. فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله.
{ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}..
أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه.. والتعبير: {عفوا}- إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة: حالة قلة المبالاة. حالة الاستخفاف والاستهتار. حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء.. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفراداً وأمماً- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً، أو تحسب حساباً لشيء. فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان، في يسر واطمئنان! وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة. وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس. ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم:
{وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}.
وقد أخذ دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء!
عندئذ.. وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية:
{فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}..
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال!
هكذا تمضي سنة الله أبداً. وفق مشيئته في عباده. وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته- وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة؛ ويحذرهم الفتنة.. فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء.. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ، ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد. ولن تظلم نفس شيئاً.
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية. فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض.. هكذا.. {بركات من السماء والأرض} مفتوحة بلا حساب. من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات..
وأمام هذا النص- والنص الذي قبله- نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء. وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال. بل تنكره كل الإنكار!..
إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان. إن الإيمان بالله، وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟
ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله.. نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان..
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه!
إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية؛ وصدق في الإدراك الإنساني، وحيوية في البنية البشرية، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود.. وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها.
وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً!
وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة.. وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة لله.. تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح.. والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود..
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال!
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيداً. ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس:
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً- يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!.. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ.. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال!
إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون.. لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم، يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم والتقاليد- وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره.. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق.
فهذه هي السنة: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء}! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة.. وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن. وهو متاع بلا رضى. وهي وفرة بلا صلاح. وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال..
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية. التي يشهد بها تاريخ القرى الخالية. وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان، على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا؛ وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء.. في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع:
{أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون؟ أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}..
أفأمن أهل القرى- وتلك سنة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، والبأساء والنعماء، وتلك مصارع المكذبين السادرين، الذين كانوا قبلهم يعمرون هذه القرى ثم تركوها فخلفوهم فيها- أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله في غفلة من غفلاتهم، وغرة من غراتهم؟ أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله بالهلاك والدمار.. بياتاً وهم نائمون.. والإنسان في نومه مسلوب الإرادة، مسلوب القوة، لا يملك أن يحتاط ولا يملك أن يدفع عادية من حشرة صغيرة.. فكيف ببأس الله الجبار؟ الذي لا يقف له الإنسان في أشد ساعات صحوه واحتياطه وقوته؟
أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله.. ضحى وهم يلعبون.. واللعب يستغرق اليقظة والتحفز، ويلهي عن الأهبة والاحتياط. فلا يملك الإنسان، وهو غارٌّ في لعبه، أن يدفع عن نفسه مغيراً. فكيف بغارة الله التي لا يقف لها الإنسان وهو في أشد ساعات جده وتأهبه للدفاع؟
وإن بأس الله لأشد من أن يقفوا له نائمين أم صاحين. لاعبين أم جادين. ولكن السياق القرآني يعرض لحظات الضعف الإنساني، ليلمس الوجدان البشري بقوة، ويثير حذره وانتباهه، حين يترقب الغارة الطامة الغامرة، في لحظة من لحظات الضعف والغرة والفجاءة.
وما هو بناج في يقظة أو غرة. فهذه كتلك أمام بأس الله سواء!
{أفأمنوا مكر الله؟}.
وتدبيره الخفي المغيب على البشر.. ليتقوه ويحذروه.
{فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}..
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار. وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار! أفأمنوا مكر الله؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين، الذين هلكوا بذنوبهم، وجنت عليهم غفلتهم؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم؟
{أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}..
إن سنة الله لا تتخلف؛ ومشيئة الله لا تتوقف. فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة.. ألا إن مصارع الخالين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية.. كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم. عسى ألا يكون فيهم. لو كانوا يسمعون!
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله. وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئناً بذكر الله، قوياً على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
والمنهج القرآني- مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم. فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة. ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير..
والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام:
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل. كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات}..
فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان. وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا. إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها. فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب:
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}..
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة:
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا}..
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف. كما يقع في كل جاهلية. إذا تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية.
وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه. فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف..


يتضمن هذا الدرس قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه. من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين. وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة. وغلبة الحق على الباطل. وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل. واستعلان الحق في نفوسهم على هذا التوعد وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة. ثم ماتلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل. وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات. ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب. حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه؛ وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات. حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك- ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة.. لتعقبها فتنة الرخاء..
وقد اخترنا أن نجعل هذا القطاع من القصة درساً؛ ونجعل القطاع الآخر الخاص بقصة موسى- عليه السلام- مع قومه بعد ذلك درساً يليه لاختلاف طبيعة القطاعين، واختلاف مجالهما كذلك..
والقصة تبدأ هنا بمجمل عن بدئها ونهايتها، يوحي بالغرض الذي جاءت من أجله في سياق هذه السورة:
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
فيصرح النص بالغرض من سياقة القصة في هذا الموضع.. إنه النظر إلى عاقبة المفسدين.. وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية، تعرض الحلقات التي تفي بهذه الغاية، وتصورها تفصيلاً.
والقصة تقطع إلى مشاهد حية، تموج بالحركة وبالحوار، وتزخر بالانفعالات والسمات، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى رب العالمين وبين الطواغيت المتسلطة على عباد الله، المدعية للربوبية من دون الله، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن، فلا تخشى سلطان الطواغيت، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد..
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها، كانت بعثة موسى.. والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها. كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها. لقد ظلموا بهذه الآيات- أي كفروا وجحدوا- والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة الظلم وكلمة الفسق في موضع كلمة الكفر أو كلمة الشرك.
وهذه من تلك المواضع التي يكثر ورودها في التعبير القرآني. ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق.. والذين يكفرون أو يشركون يظلمون الحقيقة الكبرى- حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد- ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة. ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية لله الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة.. وليس بعد ذلك ظلم.. ومن ثم فالكفر هو الظلم {والكافرون هم الظالمون} كما يقول التعبير القرآني الكريم.. وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسق ويخرج عن طريق الله وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه- سبحانه- إنما تؤدي إلى الجحيم!
ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا.
{فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
وهذه العاقبة ستجيء في السياق عن قريب.. أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة: {المفسدين} وهي مرادف لكلمة {الكافرين} أو {الظالمين} في هذا الموضع.. إنهم ظلموا بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا فانظر كيف كان عاقبة {المفسدين} هؤلاء.
إنهم مفسدون لأنهم ظلموا- أي كفروا وجحدوا.. ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد. وأشنع الإفساد.. إن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد، والعبودية لإله واحد.. وإن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس.. إن العبودية لله وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة، وشهوات البشر الصغيرة!.. إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد- من دون الله- وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم لله وحده- عقيدة وعبادة وشريعة- وما تحرر الإنسان قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة.. ومن ثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه:
{فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}..
وكل طاغوت يُخضع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من {المفسدين} الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون!
وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص. وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة، وللمحور الذي تدور حوله. لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى- تحقيقاً للهدف من سياقتها- ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها.
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه؟
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما:
{وقال موسى: يا فرعون إني رسول من رب العالمين. حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق.
قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل. قال: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. قال الملأ من قوم فرعون: إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم، فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين. يأتوك بكل ساحر عليم}..
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.. مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى {رب العالمين} وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين!
{وقال موسى: يا فرعون، إني رسول من رب العالمين. حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق. قد جئتكم ببينة من ربكم، فأرسل معي بني إسرائيل}..
{يا فرعون}.. لم يقل له: يا مولاي! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز. ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود:
{إني رسول من رب العالمين}..
لقد جاء موسى- عليه السلام- بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله. حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً.. ألوهية واحدة وعبودية شاملة.. لا كما يقول الخابطون في الظلام من علماء الأديان ومن يتبعهم في زعمهم عن تطور العقيدة إطلاقاً، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين!.. إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها. ولا تتطور من الآلهة المتعددة، إلى التثنية، إلى الوحدانية في نهاية المطاف.. فأما جاهليات البشر- حين ينحرفون عن العقيدة الربانية- فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية.. وسائر أنواع العقائد الجاهلية.. ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح.
ولقد واجه موسى- عليه السلام- فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي- قبله أو بعده- عقائد الجاهلية الفاسدة.. واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه.. إن ربوبية الله للعالمين تعني- أول ما تعني- إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له- من دون الله- بإخضاعهم لشرعه هو وأمره.. واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين.. ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله.
{حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق}..
فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله، ليقول عليه إلا الحق، وهو يعلم قدره؛ ويجد حقيقته- سبحانه- في نفسه.
{قد جئتكم ببينة من ربكم}..
تدلكم على صدق قولي: إني رسول من رب العالمين.
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة.. حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين.. طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني


في هذا الدرس تمضي قصة موسى- عليه السلام- في حلقة أخرى.. مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون.. إن موسى- عليه السلام- لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه؛ فقد انتهت المعركة مع الطاغوت.. ولكنه يواجه معركة أخرى- لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً- إنه يواجه المعركة مع النفس البشرية! يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس؛ ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية؛ وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء!
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً؛ عاشوا في ظل الإرهاب؛ وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نسائهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.
وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر.. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان.
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس: ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم.. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام.. إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله..
ولقد ضربت أبشار بني إسرائل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني.. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر.. فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه- من ابن فاتح مصر وحاكمها- وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه!- وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان- وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان- حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح.
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة- بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل؛ وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية؛ وتواجه موسى- عليه السلام- بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل!
وسنرى متاعب موسى- عليه السلام- في المحاولة الضخمة التي يحاولها؛ وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلاً، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلاً، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره!
وسنرى من خلال متاعب موسى- عليه السلام- متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت- وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلاً لا روح فيه؟
إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة!
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل.
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم. قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء مُتَبَّرٌما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال: أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين؟ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب: يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
إنه المشهد السابع في القصة- مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر- ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم.
إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى- عليه السلام- باسم الله الواحد- رب العالمين- الذي أهلك عدوهم؛ وشق لهم البحر؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون.. إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى- رسول رب العالمين- الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد!
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}!
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام! ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية. وطبيعة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات- طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس.. ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى- عليه السلام- بالتوحيد- فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر- بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين! وهؤلاء كانوا وثنيين، وباسم هذه الوثنية استذلوهم- حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم: {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟}.. ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم: رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه.. آلهة؟ ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة.. ولكنما هي إسرائيل!..
ويغضب موسى- عليه السلام- غضبة رسول رب العالمين، لرب العالمين- يغضب لربه- سبحانه- ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب:
{قال: إنكم قوم تجهلون}..
ولم يقل تجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل.
الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق..
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر. فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر- وفق المنهج الصحيح- وما يغفل عن ذلك كله، أو يعرض عن ذلك كله، إلا الحمقى والجهال. ولو ادعوا العلم كما يدعيه الكثيرون!
ويمضي موسى- عليه السلام- يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم، فأرادوا أن يقلدوهم:
{إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون}..
إن ما هم فيه من شرك، وعكوف على الآلهة، وحياة تقوم على هذا الشرك، وتتعدد فيها الأرباب، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط.. إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة.. إن هذا كله هالك باطل؛ ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف!
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى- عليه السلام- على ربه والغضب له- سبحانه- والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم- وهي حاضرة ظاهرة-:
{قال: أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين؟}..
والتفضيل على العالمين- في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين. وليس وراء ذلك فضل ولا منة. فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة. كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة- التي كانت إذا ذاك في أيد مشركة- فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون؟!
وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله- سبحانه- يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى- عليه السلام- موجه كذلك لقومه:
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم، بين كلام الله- سبحانه- وما يحكيه من كلام أوليائه، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه!
وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل- في هذا الموضع- كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم.
ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر.. والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة.. ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة. الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء..
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
فما كان شيء في ذلك كله جزافاً بلا تقدير. ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير. وللتمحيص والتدريب. وللإعذار قبل الأخذ الشديد. إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب!
وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه.. مشهد تهيؤ موسى- عليه السلام- للقاء ربه العظيم؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا؛ ووصيته لأخيه هارون- عليه السلام- قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم:
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة.. وقال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}..
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها. انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، وفي طريقهم إلى الأرض المقدسة.. ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى.. مهمة الخلافة في الأرض بدين الله.. ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى- عليه السلام- ولم يمض إلا القليل! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم.. ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه. وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه.
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة..
وألقى موسى إلى أخيه هارون- قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك:
{وقال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}..
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه. ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم.. ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل!.. وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصحية إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم!.
إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير!!!
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير: فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون: فصامها موسى- عليه السلام- وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين..
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع. المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى- عليه السلام- مشهد الخطاب المباشر بين الجليل- سبحانه- وعبد من عباده. المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي، وهو بعد على هذه الأرض.. ولا ندري نحن كيف.. لا ندري كيف كان كلام الله- سبحانه- لعبده موسى. ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله. فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة. ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء. ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية، نريد أَن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود!
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه، قال: رب أرني أنظر إليك، قال: لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً، وخر موسى صعقاً. فلما أفاق قال: سبحانك! تبت إليك وأنا أول المؤمنين. قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي. فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين. وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها. سأريكم دار الفاسقين. سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين. والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟}.
إننا لفي حاجة إلى اسحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله.. في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه..
{ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلمه ربه، قال: رب أرني أنظر إليك}..
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق! فينسى من هو، وينسى ما هو، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض.
يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود.. حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة:
{قال: لن تراني}..
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل، فيعلمه لماذا لن يراه.. إنه لا يطيق..
{ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني}..
والجبل أمكن وأثبت. والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري.. ومع ذلك فماذا؟
{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً}..
فكيف كان هذا التجلي؟ نحن لا نملك أن نصفه، ولا نملك أن ندركه.. ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله، حين تشف أرواحنا وتصفو، وتتجه بكليتها إلى مصدرها. فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً.. لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي.. ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره؛ وليس منها رواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً.
{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً}..
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوًّى بالأرض مدكوكاً.. وأدركت موسى رهبة الموقف، وسرت في كيانه البشري الضعيف:
{وخر موسى صعقاً}.
مغشياً عليه، غائباً عن وعيه.
{فلما أفاق}..
وثاب إلى نفسه، وأدرك مدى طاقته، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله:
{قال: سبحانك!}..
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك.
{تبت إليك}..
عن تجاوزي للمدى في سؤالك!
{وأنا أول المؤمنين}..
والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله، وبما ينزله عليهم من كلماته.. وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى.
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى.. بشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص.. وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص:
{قال: يا موسى، إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}..
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى- عليه السلام- {اني اصطفيتك على الناس برسالاتي}.. أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه- فالرسل كانوا قبل موسى وبعده- فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة. أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى- عليه السلام- أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه، والشكر على الاصطفاء والعطاء، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله. والرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- قدوة للناس؛ وللناس فيهم أسوة؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة؛ وإصلاحاً للقلب؛ وتحرزاً من البطر؛ واتصالاً بالله..
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة، وكيف أوتيها موسى:
{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء}.
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة- نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير- ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه. وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح. أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء. والمهم هو ما في هذه الألواح. إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء!
{فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}..
والأمر الإلهي الجليل لموسى- عليه السلام- أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم.. هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية، التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه- كذلك- يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها..
إن العقيدة أمر هائل عند الله- سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ الإنسان وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك.. والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله- سبحانه- وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة..
وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ الإنسان.. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه. ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر..
وليس معنى هذا- بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! فهذا ليس من طبيعة دين الله.. ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة.. وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض!
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر. تحتاج إلى هذا التوجيه. لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة.
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة.. كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً!
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه:
{سأريكم دار الفاسقين}..
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت- في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين، وأنها بشارة لهم بدخولها.. وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى- عليه السلام- لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم: {يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!}.. ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله، في الدخول والاقتحام! أجابوا موسى بتوقح الجبان- كالدابة التي ترفس سائقها!-: قالوا {إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون!}.. مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة..
وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته، يتضمن تصويراً دقيقاً لطبيعة هذا الصنف من الناس، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس:
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً. ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين. والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟}..
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً.. إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها.. آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله.. ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين.
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية، كأنما نراه بسماته وحركاته!
{الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}.
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً. فالكبرياء صفة الله وحده. لا يقبل فيها شريكاً. وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق! وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر. فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث. ومن ثم تجيء بقية الملامح:
{وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً}..
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها؛ كأَنما بآلية في تركيبها لا تتخلف! وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً!
وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها!
وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات!!!
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك.
{ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}..
{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}..
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوةَ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام!
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.. ولكن كيف تحبط هذه الأعمال؟
من ناحية الاعتقاد.. نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة؛ أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن.
ومن ناحية النظر.. نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود؛ ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول؛ فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد!
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله- سبحانه- عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط!
والأمم التي خلت شاهد واقع. ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم، لا يأخذون منهم عبرة، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف.. والله من ورائهم محيط..
وبينما كان موسى- عليه السلام- في حضرة ربه، في ذلك الموقف الفريد، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار.. كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار- لا حياة فيه- يعبدونه من دون الله!
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر. نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته:
{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسدا له خوار. ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ اتخذوه وكانوا ظالمين. ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد.
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً.
فلما خلوا إلى أنفسهم، ورأوا عجلاً جسدا من الذهب- لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد- صنعه لهم السامري- رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه- واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران.. لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري: {هذا إلهكم وإله موسى} الذي خرج موسى لميقاته معه؛ فنسي موسى موعده معه- ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري: لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه!- ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار- رب العالمين- ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم!.. وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم. صورة يعجب منها القرآن الكريم؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام!
{ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ اتخذوه وكانوا ظالمين؟}..
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر. والله خلقهم وما يصنعون؟!
وكان فيهم هارون- عليه السلام- فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف. وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد- وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل!
وأخيراً هدأت الهيجة، وانكشفت الحقيقة، وتبين السخف، ووضح الضلال، وجاءت نوبة الندم والإقرار:
{ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، قالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..
يقال: سقط في يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر.. ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا- بهذه النكسة- إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهىّ! قالوا قولتهم هذه:
{لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}..
وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم- إلى ذلك الحين- بقية من استعداد صالح. فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد- فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم!- فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته.. وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح.
كل ذلك وموسى- عليه السلام- بين يدي ربه، في مناجاة وكلام، لا يدري ما أحدث القوم بعده.. إلا أن ينبئه ربه.. وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر.
{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً. قال: بئسما خلفتموني من بعدي! أعجلتم أمر ربكم؟ وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه. قال: ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين. قال: رب اغفر لي ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين}..
لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب. يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله.. يبدو في قوله لقومه:
{بئسما خلفتموني من بعدي! أعجلتم أمر ربكم؟}..
ويبدو في فعله إذا يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه.
{وأخذ برأس أخيه يجره إليه!}..
وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية. والنقلة بعيدة:
{بئسما خلفتموني من بعدي}..
تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار!
{أعجلتم أمر ربكم؟}..
أي استعجلتم قضاءه وعقابه! أو ربما كان يعني: استعجلتم موعده وميقاته!
{وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه}..
وهي حركة تدل على شدة الانفعال.. فهذه الألوح هي التي كانت تحمل كلمات ربه. وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه. وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه. وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب!
فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة، ليسكن من غضبه، ويكشف له عن طبيعة موقفه، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم:
{قال: ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني!}..
وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس:
{ابن أم}.. بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة.
{إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}.. بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه.
{فلا تشمت بي الأعداء}.. وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون!
{ولا تجعلني مع القوم الظالمين}..
القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق؛ فأنا لم أضل ولم أكفر معهم، وأنا بريء منهم!
عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان. وعندئذ يتوجه إلى ربه، يطلب المغفرة له ولأخيه، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين:
{قال: رب اغفر لي ولأخي، وأدخلن

1 | 2 | 3 | 4